رغم إخفائها بعناية داخل الصهريج.. الجمارك تفشل تهريب شحنة سجائر عبر قاطرة لنقل الزيوت العادمةصنعاء - سبأ- تحقيق: منصور الحيث: تحولات تقنية نوعية تشهدها المكاتب والمراكز الجمركية في تطوير الخدمات وتبسيط الإجراءات، باتت تشكل عائقاً كبيراً أمام المهربين الذين يحاولون ابتكار طرق وأساليب مختلفة لتهريب البضائع والسلع. يتتبع هذا التحقيق الطرق والأساليب التي استخدمها أحد المهربين يدعى (ر. ع. ل) لمحاولة تهريب كمية كبيرة من السجائر، باستغلال التسهيلات الحكومية، وذلك من خلال محاولة التمويه على موظفي الجمارك سعيا لتهريب 256 ألفاً و687 باكت سجائر، عبر إخفائها داخل صهريج قاطرة، قادمة من المناطق المحتلة، والتي تم احتجازها في مركز الحزم الجمركي بمحافظة الجوف، ومن ثم ترحيلها إلى مركز نهم الجمركي لاستكمال الإجراءات القانونية وصولا إلى نيابة ومحكمة نهم وبني حشيش التي تنظر حاليا في هذه القضية. كانت البداية في الثامن والعشرين من شهر يونيو 2023م عندما قدمت القاطرة من جهة خط اليتمة وعبرت نقطة الشجرة الواقعة ضمن النطاق الجغرافي لمديرية الحزم دون المرور بمكتب الترحيل التابع للجمارك (بالقرب من النقطة) حيث لم يتم قيد وتسجيل القاطرة حسب الآلية المتبعة لوسائل النقل الواصلة من خط اليتمة، مما اضطر موظف الجمارك المناوب ومندوب هيئة النقل في النقطة لتتبع القاطرة وإيقافها في مثلث محافظة الجوف. وبحسب موظف الجمارك فقد أفاد سائق القاطرة (الذي اتضح فيما بعد أنه المهرب) أن سبب عدم توقفه لاستكمال الإجراءات في مكتب الترحيل الجمركي هو أن القاطرة فارغة، وأنه برفقة مندوب من المكافحة لتسليم القاطرة لمندوب الهيئة العامة لحماية البيئة بمحافظة الجوف. ويؤكد موظف الجمارك أن سائق القاطرة ومندوب المكافحة ومندوب هيئة البيئة كانوا معترضين على تسليم القاطرة إلى مركز الحزم بمبرر أنها فارغة لأنها خاصة بالزيوت العادمة وهي من اختصاص هيئة البيئة، إلا أنه وبعد عدة مداولات هاتفية بين عمليات المكافحة ومسؤول الضابطة الجمركية ومندوب هيئة البيئة تم إدخال القاطرة إلى مركز الحزم الجمركي وتحرير وثيقة بإيصالها من قبل مدير البيئة في نفس اليوم. إفشال المرحلة الأولى من العملية حاول المهرب أن يتجاوز المرحلة الأولى من عملية التهريب باستخدام وثيقتين تتمثل الأولى تصريح مرور حصل عليه من فرع الهيئة العامة لحماية البيئة بمحافظة صنعاء لمدة عام كامل يبدأ من 11 مارس 2023م لنقل الزيوت العادمة في محافظات الجمهورية، وقد منح هذا التصريح قبل هذه العملية بثلاثة أشهر، بينما تتمثل الوثيقة الثانية في مذكرة مكتوبة بخط اليد وتوقيع مدير فرع هيئة البيئة بمحافظة الجوف بتاريخ 28 يونيو 2023م يفيد فيها أنه استلم القاطرة الفارغة الخاصة بنقل الزيوت العادمة من مندوب المكافحة وهي قادمة من نقطة العقبة التابعة للمكافحة. حاول المهرب استغلال الوثيقتين للتضليل ليتمكن من تجاوز وعبور عدد من النقاط التابعة للمكافحة تمهيدا لإكمال العملية متذرعا بأن القاطرة خاصة بنقل الزيوت العادمة وبأنها فارغة، في محاولة لاستغلال مندوب هيئة البيئة، إلا أن موظف الجمارك لاحظ عبور القاطرة من نقطة الشجرة رغم أن مكتب الترحيل الذي يعمل فيه يبعد قليلا عن النقطة. فشل المرحلة الثانية قرر المعنيون في مركز الحزم الجمركي تحويل القاطرة إلى مركز نهم الجمركي بمحافظة صنعاء للعرض على جهاز الأشعة الخاص بكشف المهربات المخفية، نظرا لكون الصهريج مسدود بالكامل ولا يوجد عليه سوى فتحة ضيقة في الوسط من الأعلى يظهر من خلالها وجود زيت حارق ويصعب الرؤية إلى الداخل. لم يتمكن المهرب خلال فترة بقاء القاطرة في مركز الحزم لنحو عشرة أشهر من الوصول إلى أي حلول خارج نطاق القانون لتمرير كمية السجائر المخفية، رغم أنه أبدى موافقته خطيا للمركز بجلخ الصهريج، وأنه يتحمل كامل المسؤولية إذا اتضح وجود أي شيء مخفي بداخله، لكنه ربط هذه الموافقة بأنه لا يستطيع الذهاب إلى مركز نهم، الأمر الذي زاد من شكوك موظفي المركز بسبب تخوف المهرب من فحص القاطرة بجهاز الأشعة. مصلحة الجمارك.. متابعة مستمرة خلال فترة بقاء القاطرة في مركز الحزم حتى ترحيلها إلى مركز نهم بتاريخ الثاني من أبريل 2024م ظلت قيادة مصلحة الجمارك تتابع سير الإجراءات لهذه القاطرة، والغموض الذي يكتنفها من جانب، وكذا المماطلة في الاجراءات وبقاء القاطرة في حوش مركز الحزم لعشرة أشهر، إلى جانب أن المهرب ورغم تهربه طوال هذه الفترة ورفضه إجراء الفحص للقاطرة بجهاز الأشعة، حضر أخيرا ووافق على نقل القاطرة إلى مركز نهم بعد أن سمع عن تعطّل جهاز الأشعة في المركز، ما دفع برئيس المصلحة المهندس عادل مرغم لاتخاذ إجراءات سريعة لكشف الحقيقة، فتم إحالة كافة موظفي الجمارك ممن لهم علاقة بالإجراءات المتخذة بشأن القاطرة إلى التحقيق، كما تم تشكيل لجنة للقيام بعملية جلخ الصهريج برئاسة القاضي فؤاد الجرموزي عضو نيابة نهم وبني حشيش وعضوية مباحث الأموال العامة والأمن والمخابرات ومسؤولي الضابطة في المركز واللجنة المشكلة من المصلحة. تمت عملية فتح الصهريج في ساحة مركز نهم الجمركي بمحضر موقع عليه من قبل اللجنة بتاريخ 3 يونيو 2024م، في حين ظل السائق متهربا بعد أن تم التحري والتأكد من قبل الضابطة بمركز نهم من وجود أماكن إخفاء ولحام مستحدث داخل الصهريج. المرحلة الثالثة (العثور على الشحنة) لم يتوقع المهرب أن أحدا سيتمكن من اكتشاف التخطيط الهندسي المتقن الذي استخدمه داخل الصهريج للتمويه على موظفي الجمارك، حيث اتضح من خلال المعاينة والتحري وجود ثلاث مقصورات بداخله تقع الأولى في مقدمة القاطرة والتي أغلقت بلحام حديدي، وعند فتحها وجدت اللجنة بداخلها سجائر مهربة. أما المقصورة الثانية فكانت فارغة وتحتوي على كمية قليلة من الزيت الحارق تم استخدامه للتمويه، ويوجد بهذه المقصورة الفتحة الرئيسية للصهريج، في حين تقع المقصورة الثالثة في نهاية الصهريج من الخلف والتي تم جلخها أيضا والعثور على سجائر مخفية بداخلها بنفس طريقة الإخفاء في المقصورة الأولى. يلجأ المهربون إلى طرق وأساليب ووسائل متعددة لإخفاء السلع المهربة سواء كانت مخدرات أو أدوية أو مبيدات أو منتجات زراعية خارجية، حيث يقومون بإخفائها في أماكن سرية داخل هياكل وسائل النقل مثل الإطارات الاحتياطية، والأبواب والكراسي، وبجانب المحركات، وداخل خزانات الوقود والمياه، وفي أسطوانات الغاز والدراجات النارية. مكافحة جرائم التهريب يؤكد رئيس مصلحة الجمارك أن المصلحة حققت خلال عامي 2023-2024م قفزة نوعية في مكافحة جرائم التهريب الجمركي من خلال تحريك الدعاوى الجزائية لكافة قضايا التهريب ومتابعتها لدى الهيئات القضائية، حيث بلغ عدد القضايا التي تم تحريكها أمام النيابات العامة 238 قضية لجرائم تهريب مختلفة منها 123 في مجال المبيدات، و92 في مجال الأدوية، وثمان جرائم تهريب منتجات زراعية خارجية، وأربع لتهريب مشتقات نفطية، وشيش الكترونية، وخمس لتهريب سجائر، وست لجرائم تزوير. وأكد المهندس مرغم أن المصلحة لن تتهاون، في أداء واجبها الوطني والإنساني في منع كافة أشكال التهريب الجمركي انطلاقا من مهامها واختصاصاتها، ولن تثنيها أي عوائق من شأنها الإضرار بمصلحة الوطن والمواطن. استغلال التصريح وللتقصي عن سبب قيام فرع الهيئة في محافظة صنعاء بمنح تصريح مرور للقاطرة لمدة عام، وكذا قيام مدير فرع الهيئة في محافظة الجوف باستلام القاطرة من مندوب المكافحة دون عرضها على مكتب الجمارك، أكد رئيس الهيئة العامة لحماية البيئة عبدالملك الغزالي أن فروع الهيئة تقوم بمنح تصاريح مرور للقواطر التي تحمل سلعا تختص الهيئة بإدارتها مثل تلك المحملة بالخردة والمخلفات والزيوت العادمة وحبيبات البلاستيك والمبيدات.. مشيرا إلى أنه يتم منح تصاريح مرور لمدة يومين أو أكثر بحسب الشحنة، وبالإمكان منح تصريح لمزاولة نقل الزيوت العادمة لمدة عام وأيضا للنقل في المحافظات الحرة. وأضاف "أما عندما تنقل من المناطق المحتلة فلابد أن تحصل على تصريح مرور عند كل شحنة للتأكد من أنها فعلا زيوت عادمة لأنه قد يتم استغلال التصريح السنوي لتهريب مشتقات نفطية أو مواد مخالفة وغيرها، وهذا يؤكد أن المهرب استغل التصريح لتهريب السجائر من المناطق المحتلة". قاطرة الموت قيد المحاكمة لم تكن القاطرة تخفي بداخلها تلك الكمية من السجائر المهربة القادمة من المناطق المحتلة فحسب، بل إنها تحمل أيضا الموت بكل ما تعنيه الكلمة حيث تعمد المهرب إخفاء كمية السجائر على قاطرة مخصصة فقط لتحميل الزيوت العادمة، وقام بسد كافة الفتحات الخاصة بالتهوية بلحام حديدي، كما أن الخزان يحوي كمية من الزيت العادم في المقصورة التي تقع في وسط الصهريج، وهناك اشتباه بأن الصهريج قد استخدم لتهريب مخدرات، حيث تم توثيق فيديو لأحد الكلاب المتخصصة في كشف المخدرات المخفية وهو يقف عند بعض كراتين السجائر أثناء عملية فحص القاطرة من قبل فريق تابع لمكافحة المخدرات. وقد أفاد أحد المدربين أن الكلاب كشفت عن آثار للممنوعات، وعند فتح العبوات "الكراتين" لم يجدوا أي ممنوعات في هذه الضبطية.. موضحا أنه لا يوجد تفسير لذلك سوى أن القاطرة قد تكون حملت مادة الحشيش بداخل الصهريج، ولذلك انتقلت الرائحة إلى عبوات السجائر. وبحسب المختصين فإن كل هذه الظروف المحيطة بالسجائر يجعلها مادة سامة ولم تعد قابلة للاستخدام الآدمي، كونها في الأساس وفي حالتها الطبيعية تعد المسبب الرئيسي لأمراض السرطان، فكيف سيكون حالها بعد تخزينها في صهريج يحتوي على زيوت عادمة ومحكم الإغلاق بالكامل. القضية أمام المحكمة وفي قرار الاتهام الخاص بالقضية قدمت نيابة أرحب ونهم وبني حشيش المتهم على أنه فار من وجه العدالة، حيث سبق وأن تم تحويل القضية إلى محكمة نهم وبني حشيش بتاريخ 28 يوليو 2024م لأن جريمة التهريب تمت في نطاق اختصاص المحكمة. ولأن القضية ما تزال بنظر محكمة نهم وبني حشيش التقينا بالقاضي أحمد القصاري (أحد القضاة بالمحكمة) والذي أفاد بأنه تم قبل شهر رمضان منح فرصة لتصحيح وضع المتهم وفق الآلية المتبعة في الجمارك في مثل هذه الحالات.. موضحا بأن المصلحة وحسب إجراءاتها تقوم بعمل معالجات "تسويات" لمثل هذه الحالات وبحكم أن المتهم قام بهذا العمل لأول مرة فعلى المصلحة أن تعالج وضعه لعدم التكرار. ولمعرفة الإجراءات المتبعة في مثل هذه الحالات، أفاد مدير عام الشؤون القانونية بمصلحة الجمارك محمد الشامي "أن المصلحة حركت القضية ورفعت الدعوى ضد المهرب بهدف الوصول إلى عقوبات رادعة كما هو معمول به في جرائم التهريب الكبيرة، وذلك بهدف مصادرة كمية السجائر المهربة ووسيلة النقل المستخدمة في عملية التهريب طبقا لقانون الجمارك رقم (14) لسنة 1990م وتعديلاته مع مراعاة أحكام المادة (271) والتي تتيح لرئيس المصلحة أو من يفوضه أن يقرر مصادرة البضاعة ووسائط النقل المحجوزة في حالة فرار المهربين وعدم الاستدلال عليهم إذا لم تتجاوز قيمتها مليونا و500 ألف ريال، فإذا تجاوزت قيمة البضاعة هذا المقدار تقرر المحكمة الجمركية على وجه الاستعجال مصادرة البضاعة المحجوزة". وأشار إلى أهمية مراعاة أن القضايا الجمركية تعد من القضايا المستعجلة، وفقًا لما نص عليه قرار مجلس القضاء الأعلى رقم (71) لسنة 2018، والذي ألزم المحاكم بأن "يتبع في نظر قضايا الجمارك والفصل فيها القواعد والإجراءات المستعجلة المنصوص عليها في قانون الجمارك. وبحسب الشامي "فإن سحب القضية من المحكمة للتسوية مع المهرب يتطلب توفر معايير ومبررات مقنعة ولا يوجد أي مبررات تدفع بالمصلحة للتسوية والتصالح في هذه القضية، ولذلك قامت بتحريك الدعوى للوصول إلى أشد العقوبات، لأن هذا النوع من التهريب يتنافى مع أهداف التسوية التي تقوم أصلًا على مراعاة الظروف المخففة والمصلحة العامة". جريمة تستهدف الاقتصاد التهريب ليس مجرد جريمة عابرة، بل هو تهديد يستهدف الاقتصاد والأمن في البلد، في حين تعد مصلحة الجمارك خط الدفاع الأول ولا يمكن أن يتحقق ذلك دون تعاون جميع الجهات المعنية من خلال تشديد العقوبات وتوفير الأدوات اللازمة للتصدي لهذه الآفة، ويأتي في مقدمة ذلك تسريع البتّ في قضايا التهريب لضمان الردع الفوري، لأنه لا مجال للتساهل أو التأخير في محاكمة المهربين، باعتبار أن مكافحة التهريب ليست مسؤولية مصلحة الجمارك فقط، بل هي معركة وطنية تتطلب تكاتف الجميع، والنجاح فيها يتوقف على التعاون الكامل من كل الأطراف لحماية اقتصاد وأمن البلد. 
|
|
